فصل: ذكر وفاة المستعلي بالله وولاية الآمر بأحكام الله

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر ما فعله جاولي سقاووا بالباطنية

في هذه السنة قتل جاولي سقاوو خلقًا كثيرًا منهم‏.‏

وسبب ذلك أن هذا الأمير كانت ولايته البلاد التي بين رامهرمز وأرجان‏.‏

فلما ملك الباطنية القلاع المذكورة بخوزستان وفارس وعظم شرهم وقطعوا الطريق بتلك البلاد واقف جماعة من أصحابه حتى أظهروا الشغب عليه وفارقوه وقصدوا الباطنية وأظهروا أنهم معهم وعلى رأيهم فأقاموا عندهم حتى وثقوا بهم‏.‏

ثم أظهر جاولي أن الأمراء بني برسق يريدون قصده وأخذ بلاده وأنه عازم على مفارقتها لعجزه عنهم والمسير إلى همذان فلما ظهر ذلك وسار قال من عند الباطنية من أصحابه ممن لهم الرأي‏:‏ إننا نخرج إليه طريقه ونأخذه وما معه من الأموال فساروا إليه في ثلاثمائة من أعيانهم وصناديدهم فلما التقوا صار من معهم من أصحاب جاولي عليهم ووضعوا السيف فيهم فلم يفلت منهم سوى ثلاثة نفر صعدوا إلى الجبل وهربوا وغنم جاولي ما معهم من دواب وسلاح وغير ذلك‏.‏

  ذكر قتل صاحب كرمان الباطني وملك غيره

كان تيرانشاه بن تورانشاه بن قاورت بك هو الذي قتل الأتراك الإسماعيلية وليسوا منسوبين إلى هذه الطائفية الباطنية إنما نسبوا إلى أمير اسمه إسماعيل وكانوا من أهل السنة قتل منهم ألفي رجل صبرًا وقطع أيدي ألفين ووفد عليه إنسان يقال له‏:‏ أبو زرعة كان كاتبًا بخوزستان فحسن له مذهب الباطنية فأجاب إليه‏.‏

وكان عنده فقيه حنفي يقال له‏:‏ أحمد بن الحسين البلخي كان مطاعًا في الناس فأحضره عنده ليلًا وأطال الجلوس معه فلما خرج من عنده أتبعه بمن قتله فلما أصبح الناس دخلوا عليه وفيهم صاحب جيشه فقال لتيرانشاه‏:‏ أيها الملك من قتل هذا الفقيه فقال‏:‏ أنت شحنة البلد تسألني من قتله فقال‏:‏ أنا أعرف قاتله‏!‏ ونهض من عنده ففارقه في ثلاثمائة فارس وسار إلى أصبهان فأرسل في أثره ألفي فارس ليردوه فقاتلهم وهزمهم وسار إلى أصبهان وبها السلطان محمد ومؤيد الملك فأكرمه السلطان وقال‏:‏ أنت والد الملوك‏.‏

وامتعض عسكر كرمان بعد مسيره واجتمعوا وقاتلوا تيرانشاه وأخرجوه عن مدينة بردسير التي هي مدينة كرمان فلما فارقها اتفق القاضي والجند وأقاموا أرسلانشاه بن كرمانشاه بن قاورت بك وسار تيرانشاه إلى مدينة بم من كرمان فحاربه أهلها ومنعوه منها وأخذوا ما معه من أموال وجواهر وقصد قلعة سميرم وتحصن بها وفيها أمير يعرف بمحمد بهستون فأرسل أرسلانشاه جيشًا حصروا القلعة فقال محمد بهستون لتيرانشاه‏:‏ انصرف عني فلست أرى الغدر بك وأنا رجل مسلم ومقامك عندي يؤذيني وأتهم بك في ديني‏.‏

فلما عزم على الخروج أرسل محمد بهستون إلى مقدم الجيش الذي يحاصرونهم يعلمه بمسير تيرانشاه فجرد عسكرًا إلى طريقه فخرجوا عليه وأخذوه وما معه وأخذوا أيضًا أبا زرعة فأرسل أرسلانشاه فقتلهما وتسلم جميع بلاد كرمان‏.‏

  ذكر السبب في قتل بركيارق الباطنية

لما اشتد أمر الباطنية وقويت شوكتهم وكثر عددهم صار بينهم وبين أعدائهم ذحول وإحن فلما قتلوا جماعة من الأمراء الأكابر وكان أكثر من قتلوا من هو في طاعة محمد مخالف للسلطان بركيارق مثل شحنة أصبهان سرمز وأرغش وكمش النظاميين وصهره وغيرهم نسب أعداء بركيارق ذلك إليه واتهموه بالميل إليهم‏.‏

فلما ظفر السلطان بركيارق وهزم أخاه السلطان محمدًا وقتل مؤيد الملك وزيره انبسط جماعة منهم في العسكر واستغووا كثيرًا منهم وأدخلوهم في مذهبهم وكادوا يظهرون بالكثرة والقوة وحصل بالعسكر منهم طائفة من وجوههم وزاد أمرهم فصاروا يتهددون من لا يوافقهم بالقتل فصار يخافهم من يخالفهم حتى إنهم لم يتجاسر أحد منهم لا أمير ولا متقدم على الخروج من منزله حاسرًا بل يلبس تحت ثيابه درعًا حتى إن الوزير الأعز أبا المحاسن كان يلبس زردية تحت ثيابه واستأذن السلطان بركيارق خواصه في الدخول عليه بسلاحهم وعرفوه خوفهم ممن يقاتلهم فأذن لهم في ذلك‏.‏

وأشاروا على السلطان أن يفتك بهم قبل أن يعجز عن تلافي أمرهم وأعلموه ما يتهمه الناس به من الميل إلى مذهبهم حتى إن عسكر أخيه السلطان محمد يشنعون بذلك وكانوا في المصاف يكبرون عليهم ويقولون يا باطنية‏.‏

فاجتمعت هذه البواعث كلها فأذن السلطان في قتلهم والفتك بهم وركب هو والعسكر معه وطلبوهم وأخذوا جماعة من خيامهم ولم يفلت منهم إلا من لم يعرف‏.‏

وكان ممن اتهم بأنه مقدمهم الأمير محمد بن دشمنزيار بن علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه صاحب يزد فهرب وسار يومه وليلته فلما كان اليوم الثاني وجد في العسكر قد ضل الطريق ولا يشعر فقتل وهذا موضع المثل‏:‏ ‏(‏أتتك بحائن رجلاه‏)‏‏.‏ ونهبت خيامه فوجد عنده السلاح المعد وأخرج الجماعة المتهمون إلى الميدان فقتلوا وقتل منهم جماعة براء لم يكونوا منهم سعى بهم أعداؤهم وفيمن قتل ولد كيقباذ مستحفظ تكريت فلم يغير والده خطبة بركيارق ولكن شرع في تحصين القلعة وعمارتها ونقض جامع البلد وكان يقاربها لئلا يؤتى منه وجعل بيعة في البلد جامعًا وصلى الناس فيه‏.‏

وكتب إلى بغداد بالقبض على أبي إبراهيم الأسداباذي الذي كان قد وصل إليها رسولًا من بركيارق ليأخذ مال مؤيد الملك وكان من أعيانهم ورؤوسهم فأخذ وحبس فلما أرادوا قتله قال‏:‏ هبوا أنكم قتلتموني أتقدرون على قتل من بالقلاع والمدن فقتل ولم يصل عليه أحد وألقي خارج السور وكان له ولد كبير قتل بالعسكر معهم‏.‏

وقد كان أهل عانة نسبوا إلى هذا المذهب قديمًا فأنهي حالهم إلى الوزير أبي شجاع أيام المقتدي بأمر الله فأحضرهم إلى بغداد فسأل مشايخهم على الذي يقال فيهم فأنكروا وجحدوا فأطلقهم‏.‏

واتهم أيضًا الكيا الهراس المدرس بالنظامية بأنه باطني ونقل ذلك عنه إلى السلطان محمد فأمر بالقبض عليه فأرسل المستظهر بالله من استخلصه وشهد له بصحة الاعتقاد وعلو الدرجة في العلم فأطلق‏.‏

  ذكر حصر الأمير بزغش قهستان وطبس

في هذه السنة جمع الأمير بزغش وهو أكبر أمير مع السلطان سنجر جموعًا كثيرة وقواهم بالمال والسلاح وسار إلى بلد الإسماعيلية فنهبه وخربه وقتل فيهم فأكثر وحصر طبس وضيق عليها ورماها بالمنجنيق فخرب كثيرًا من سورها وضعف من بها ولم يبق إلا أخذها فأرسلوا إليها الرشا الكثيرة واستنزلوه عما كان يريده منهم فرحل عنهم وتركهم فعاودوا عمارة ما انهدم من سورها وملأوها ذخائر من سلاح وأقوات وغير ذلك ثم عاودهم بزغش سنة سبع وتسعين فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

  ذكر ما ملك الفرنج من الشام

فيها سار كندفري ملك الفرنج بالشام وهو صاحب البيت المقدس إلى مدينة عكة بشاحل الشام فحصرها فأصابه سهم فقتله وكان قد عمر مدينة يافا وسلمها إلى قمص من الفرنج اسمه‏:‏ طنكري فلما قتل كندفري سار أخوه بغدوين إلى البيت المقدس في خمسمائة فارس وراجل فبلغ الملك دقاق صاحب دمشق خبره فنهض إليه في عسكره ومعه الأمير جناح الدولة في جموعه فقاتله فنصر على الفرنج‏.‏

وفيها ملك الفرنج مدينة سروج من بلاد الجزيرة وسبب ذلك أن الفرنج كانوا قد ملكوا مدينة الرها بمكاتبة من أهلها لأن أكثرهم أرمن وليس بها من المسلمين إلا القليل فلما كان الآن جمع سقمان بسروج جمعًا كثيرًا من التركمان وزحف إليهم فلقوه وقاتلوه فهزموه في ربيع الأول‏.‏

فلما تمت الهزيمة على المسلمين سار الفرنج إلى سروج فحصروها وتسلموها وقتلوا كثيرًا من أهلها وسبوا حريمهم ونهبوا أموالهم ولم يسلم إلا من مضى منهزمًا‏.‏

ومنها ملك الفرنج مدينة حيفا وهي بالقرب من عكة على ساحل البحر ملكوها عنوة وملكوا أرسوف بالأمان وأخرجوا أهلها منها‏.‏

وفيها في رجب ملكوا مدينة قيسارية بالسيف وقتلوا أهلها ونهبوا ما فيها‏.‏

في هذه السنة في شهر رمضان تقدم الخليفة المستظهر بالله بفتح جامع القصر وأن يصلى فيه صلاة التراويح ولم تكن جرت بذلك عادة وأمر بالجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وهذا أيضًا لم تجر به عادة وإنما ترك الجهر بالبسملة في جوامع بغداد لأن العلويين أصحاب مصر كانوا يجهرون بها فترك ذلك مخالفة لهم لا اتباعًا لمذهب أحمد الإمام وأمر أيضًا بالقنوت على مذهب الشافعي فلما كانت الليلة التاسعة والعشرون ختم في جامع القصر وازدحم الناس عنده وكان زعيم الرؤساء أبو القاسم علي بن فخر الدولة بن جهير أخو عميد الدولة قد أطلق من الاعتقال فاختلط الناس وخرج إلى ظاهر بغداد من ثلمة في السور وسار إلى سيف الدولة صدقة بن مزيد فاستقبله وأنزله وأكرمه‏.‏

وفيها في المحرم توفي جمال الدولة أبو نصر بن رئيس الرؤساء بن المسلمة وهو أستاذ دار الخليفة‏.‏

وفيه توفي القاضي أحمد بن محمد بن عبد الواحد أبو منصور بن الصباغ الفقيه الشافعي وأخذ الفقه عن ابن عمه الشيخ أبي نصر بن الصباغ وكان يصوم الدهر وروى الحديث عن القاضي أبي الطيب الطبري وغيره‏.‏

وفيه توفي شرف الملك أبو سعد محمد بن منصور المستوفي الخوارزمي بأصبهان وكان مستوفيًا في ديوان السلطان ملكشاه فبذل مائة ألف دينار حتى ترك الاستيفاء وبنى مشهدًا على قبر أبي حنيفة رحمة الله عليه ومدرسة بباب الطاق ومدرسة بمرو جميعها للحنفيين‏.‏

وفيها في صفر توفي القاضي أبو المعالي عزيزي وكان شافعيًا أشعريًا وهو من جيلان وله مصنفات كثيرة حسنة وكان ورعًا وله مع أهل باب الأزج أخبار ظريفة وكان قاضيًا عليهم وكانوا يبغضونه ويبغضهم‏.‏

وتوفي أسعد بن مسعود بن علي بن محمد أبو إبراهيم العتبي من ولد عتبة بن غزوان نيسابوري ولد سنة أربع وأربعمائة وروى عن أبي بكر الحيري وغيره‏.‏

وتوفي في صفر محمد بن أحمد بن عبد الباقي بن الحسن بن محمد بن طوق أبو الفضائل الربعي الموصلي الفقيه الشافعي تفقه على أبي إسحاق الشيرازي وسمع الحديث من أبي الطيب الطبري وغيره وكان ثقًا صالحًا‏.‏

وتوفي في ربيع الأول منها محمد بن علي بن عبيد الله بن أحمد بن صالح بن سليمان بن ودعان أبو نصر القاضي الموصلي وهو صاحب الأربعين الودعانية وقد تكملوا فيها فقيل إنه سرقها وكانت تصنيف زيد بن رفاعة الهاشمي والغالب عال حديثه المناكير‏.‏

وتوفي فيها في ربيع الأول نصر بن أحمد بن عبد الله بن البطر القاري أبو الخطاب ومولده سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة سمع ابن رزقويه وغيره وصارت إليه الرحلة لعلو إسناده وكان سماعه صحيحًا‏.‏

  ثم دخلت سنة خمس وتسعين وأربعمائة

  ذكر وفاة المستعلي بالله وولاية الآمر بأحكام الله

في هذه السنة توفي المستعلي بالله أبو القاسم أحمد بن معد المستنصر بالله العلوي الخليفة المصري لسبع عشرة خلت من صفر وكان مولده في العشرين من شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة وكانت خلافته سبع سنين وقريب شهرين وكان المدبر لدولته الأفضل‏.‏

ولما توفي ولي بعده ابنه أبو علي المنصور ومولده ثالث عشر المحرم سنة تسعين وأربعمائة وبويع له بالخلافة في اليوم الذي مات فيه أبوه وله خمس سنين وشهر وأربعة أيام ولقب الآمر بأحكام الله ولم يكن من تسمى بالخلافة قط أصغر منه ومن المستنصر وكان المستنصر أكبر من هذا ولم يقدر يركب وحده على الفرس لصغر سنه وقام بتدبير دولته الأفضل ابن أمير الجيوش أحسن قيام ولم يزل كذلك يدبر الأمر إلى أن قتل سنة خمس عشرة وخمسمائة‏.‏

في هذه السنة في صفر كان المصاف الثالث بين السلطانين بركيارق ومحمد‏.‏

قد ذكرنا سنة أربع وتسعين قدوم السلطان محمد إلى بغداد ورحيل السلطان بركيارق عنها إلى واسط مريضًا فأقام السلطان محمد ببغداد إلى سابع عشر المحرم من هذه السنة وسار عنها هو وأخوه السلطان سنجر عائدين إلى بلادهما وسنجر يقصد خراسان والسلطان محمد يقصد همذان‏.‏

فلما سار محمد عن بغداد وصلت الأخبار أن بركيارق قد اعترض خاص الخليفة بواسط وسمع منه في حق الخليفة ما يقبح نقله فأرسله الخليفة وأعاد السلطان محمدًا إلى بغداد وذكر له ما نقل إليه وعزم على الحركة مع محمد إلى قتال بركيارق فقال السلطان محمد‏:‏ لا حاجة إلى حركة أمير المؤمنين فإني أقوم في هذا القيام المرضي‏.‏

وسار عائدًا ورتب ببغداد أبا المعالي المفضل ابن عبد الرزاق في جباية الأموال وإيلغازي شحنة‏.‏

وكان لما دخل بغداد قد خلف عسكره بطريق خراسان فنهبوا البلاد وخربوها فأخذهم السلطان محمد معه وجد السير إلى روذراور‏.‏

وأما السلطان بركيارق فقد تقدم سنة أربع وتسعين أنه سار من بغداد عند وصول محمد إليها قاصدًا إلى واسط فلما سمع عسكر واسط بقربه منهم خافوا منه وأخذوا نساءهم وأولادهم وأموالهم وجمعوا السفن جميعها وانحدروا إلى الزبيدية فأقاموا هناك‏.‏

ووصل السلطان وهو شديد المرض يحمل في محفة وقد هلك من دواب عسكره ومتاعهم الكثير فإنهم كانوا يجدون السرير خوفًا أن يتبعهم السلطان محمد أو الأمير صدقة صاحب الحلة فكانوا كلما جازوا قنطرة هدموها ليمتنع من يجتاز بها من اتباعهم‏.‏

ولما وصلوا إلى واسط عوفي بركيارق ولم يكن له ولأصحابه همة غير العبور من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي فلم يجد هناك سفينة وكان الزمان شاتيًا شديد البرد والماء زائدًا وكان أهل البلد قد خافوهم فلزموا الجامع وبيوتهم فخلت الطرق والأسواق من مجتاز فيها فخرج القاضي أبو علي الفارقي إلى العسكر واجتمع بالأمير إياز والوزير واستعطفهما للخلق وطلب إنفاذ شحنة لتطمئن القلوب فأجابوه إلى ملتمسه وقالوا له‏:‏ نريد أن تجمع لنا من يعبر دوابنا في الماء ونسبح معها فجمع لهم من شباب واسط وأعطاهم الأجرة الوافرة فعبروا دوابهم من الخيل والبغال والجمال وكان الأمير إياز بنفسه يسوق الدواب ويفعل ما يفعله الغلمان ولم يكن معهم غير سفينة واحدة انحدرت مع السلطان من بغداد فعبروا أموالهم ورحالهم فيها‏.‏

فلما صاروا في الجانب الشرقي اطمأنوا ونهب العسكر البلد فرجع القاضي وجدد الخطاب في الكف عنهم فأجيب إلى ذلك فأرسل معه من يمنع من النهب‏.‏

ثم إن عسكر واسط أرسلوا إلى السلطان بركيارق يطلبون الأمان ليحضروا الخدمة فأمنهم فحضر أكثرهم عنده وساروا معه إلى بلاد بني برسق فحضروا أيضًا عنده وخدموه واجتمعت العساكر عليه‏.‏

وبلغه مسير أخيه محمد عن بغداد فسار يتبعه على نهاوند فأدركه بروذراور وكان العسكران متقاربين في العدة كل واحد منهما أربعة آلاف فارس من الأتراك فتصافوا أول يوم جميع النهار ولم يجر بينهم قتال لشدة البرد وعادوا في اليوم الثاني ثم تواقفوا كذلك ثم كان الرجل يخرج من أحد الصفين فيخرج إليه من يقاتله فإذا تقاربا اعتنق كل واحد منهما صاحبه وسلم عليه ويعود عنه‏.‏

ثم خرج الأمير بلدجي وغيره من عسكر محمد إلى الأمير إياز والوزير الأعز فاجتمعوا واتفقوا على الصلح لما قد عم الناس من الضرر والملل والوهن فاستقرت القاعدة أن يكون بركيارق السلطان ومحمد الملك ويضرب له ثلاث نوب ويكون له من البلاد جنزة وأعمالها وأذربيجان وديار بكر والجزيرة والموصل وأن يمده السلطان بركيارق بالعساكر حتى يفتح ما يمتنع عليه منها وحلف كل واحد منهما لصاحبه وانصرف الفريقان من المصاف رابع ربيع الأول وسار بركيارق إلى مرج قراتكين قاصدًا ساوة والسلطان محمد إلى أسداباذ وتفرق العسكران وقصد الملك أمير أقطاعه‏.‏

في هذه السنة في جمادى الأولى كان المصاف الرابع بين السلطان بركيارق وأخيه محمد‏.‏

وكان سببه أن السلطان محمدًا سار من روذراور من الوقعة المذكورة إلى أسداباذ ومنها إلى قزوين ونسب الأمراء الذين سعوا في الصلح إلى المخامرة عليه والتقاعد به فوضع رئيس قزوين أن يتوسل إليه بأولئك الأمراء ليحضر دعوته فاستشفع الرئيس بهم إلى السلطان فحضر دعوته بعد أن امتنع ووصى خواصه بحمل السلاح تحت أقبيتهم وحضر الدعوة ومعه الأمير أيتكين وبسمل فقتل الأمير بسمل وهو من أكابر الأمراء وكحل الأمير أيتكين‏.‏

وكان الأمير ينال بن أنوشتكين الحسامي قد فارق بركيارق وأقام مجاهدًا للباطنية الذين في القلاع والجبال فقصد الآن السلطان محمدًا وسار معه إلى الري يضرب النوب الخمس واجتمعت إليه العساكر وأقام ثمانية أيام ووافاه أخوه السلطان بركيارق في اليوم التاسع ووقع بينهما المصاف عند الري وكانت عدة العسكريين متقاربة كل عسكر منهما عشرة آلاف فارس فلما اصطفوا حمل الأمير سرخاب بن كيخسرو الديلمي صاحب أبة على الأمير ينال فهزمه وتبعه في الهزيمة جميع عسكر محمد وتفرقوا ومضى معظمهم نحو طبرستان ولم يقتل في هذا المصاف غير رجل واحد قتل صبرًا‏.‏

ومضى قطعة من المنهزمين نحو قزوين ونهبت خزائن محمد ومضى في نفر يسير إلى أصبهان وحمل هو علمه بيده ليتبعه أصحابه وسار في طلبه الأمير البكي بن برسق والأمير إياز إلى قم وتتبع السلطان بركيارق أصحاب أخيه محمد وأخذ أموالهم‏.‏

  ذكر حصار السلطان محمد بأصبهان

لما انهزم السلطان محمد من الوقعة التي ذكرناها بالري مضى إلى أصبهان في سبعين فارسًا والبلد في حكمه وفيه نائبه ومعه من الأمراء ينال وغيره من الأمراء ودخل المدينة في ربيع الأول وأمر بتجديد ما تشعث من السور وهذا السور هو الذي بناه علاء الدولة بن كاكويه سنة تسع وعشرين وأربعمائة عند خوفه من طغرلبك وأمر محمد بتعميق الخندق حتى صعد الماء فيه وسلم إلى كل أمير بابًا وكان معه في البلد ألف ومائة فارس وخمس مائة راجل ونصب المجانيق‏.‏

ولما علم السلطان بركيارق بمسير أخيه محمد إلى أصبهان سار يتبعه فوصلها في جمادى الأولى وعساكره كثيرة تزيد على خمسة عشر ألف فارس ومعها مائة ألف من الحواشي وأقام يحاصر البلد وضيق عليه‏.‏

وكان السلطان محمد يدور كل ليلة على سور البلد ثلاث دفعات فلما زاد الأمر في الحصار أخرج الضعفاء والفقراء من البلد حتى خلت المحال وعدمت الأقوات وأكل الناس الخيل والجمال وغير ذلك وقلت الأموال فاضطر السلطان محمد إلى أن يستقرض من أعيان البلد فأخذ مالًا عظيمًا ثم عاود الجند الطلب فقسط على أهل البلد شيئًا آخر وأخذه منهم بالشدة والعنف فلم تزل الأسعار تغلو حتى بلغ عشرة أمنان من الحنطة بدينار وأربعة أرطال لحمًا بدينار وكل مائة رطل تبنًا بأربعة دنانير ورخصت الأمتعة وهانت لعدم الطالب‏.‏

وكانت الأسعار في عسكر بركيارق رخيصة‏.‏

فبقي الحصار على البلد إلى عاشر ذي الحجة فلما رأى السلطان محمد أنه لا قدرة له على الدفع عن البلد وكلما جاء أمره يضعف قوي عزمه على مفارقته وقصد جهة أخرى يجمع فيها العساكر ويعود يدفع الخصم عن الحصار فسار عن البلد في مائة وخمسين فارسًا ومعه الأمير ينال واستخلف بالبلد جماعة من الأمراء الكبار في باقي العسكر فلما فارق العسكر والبلد لم يكن في دوابهم ما يدوم على السير لقلة العلف في الحصار فنزل على ستة فراسخ‏.‏

فلما سمع بركيارق بمسيره سير وراءه الأمير إياز في عسكر كثير وأمره بالجد في السير في طلبه فقيل‏:‏ إن محمدًا سبقهم فلم يدركوه فرجعوا وقيل‏:‏ بل أدركوه فأرسل إلى الأمير إياز يقول‏:‏ أنت تعلم أنني لي في رقبتك عهود وأيمان ما نقضت ولم يكن مني إليك ما تبالغ في أذاي‏.‏

فعاد عنه وأرسل له خيلًا وأخذ علمه والجتر وثلاثة أحمال دنانير وعاد إلى بركيارق فدخل عليه وأعلام أخيه السلطان محمد منكوسة فأنكر بركيارق ذلك وقال‏:‏ إن كان قد أساء فلا ينبغي أن يعتمد معه هذا فأخبره الخبر فاستحسن ذلك منه‏.‏

فلما فارق محمد أصبهان اجتمع من المفسدين والسوادية ومن يريد النهب ما يزيد على مائة ألف نفس وزحفوا إلى البلد بالسلاليم والدبابات وطموا الخندق بالتبن والتصقوا بالسور وصعد الناس في السلاليم فقاتلهم أهل البلد قتال من يريد أن يحمي حريمه وماله فعادوا خائبين فحينئذ أشار الأمراء على بركيارق بالرحيل فرحل ثامن عشر ذي الحجة من السنة واستخلف على البلد القديم الذي يقال له شهرستان ترشك الصوابي في ألف فارس مع ابنه ملكشاه وسار إلى همذان وكان هذا من أعجب ما سطر أن سلطانًا محصورًا قد تقطعت مواده وهو يخطب له في أكثر البلاد ثم يخلص من الحصر الشديد وينجو من العساكر الكثيرة التي كلها قد شرع إليه رمحه وفوّق إليه سهمه‏.‏

  ذكر قتل الوزير الأعز ووزارة الخطير أبي منصور

في هذه السنة ثاني عشر صفر قتل الوزير الأعز أبو المحاسن عبد الجليل ابن محمد الدهستاني وزير السلطان بركيارق على أصبهان وكان مع بركيارق محاصرًا لها فركب هذا اليوم من خيمته إلى خدمة السلطان فجاء شاب أشقر قيل‏:‏ إنه كان من غلمان أبي سعيد الحداد وكان الوزير قتله في العام الماضي فانتهز الفرصة فيه وقيل‏:‏ كان باطنيًا فجرحه عدة جراحات فتفرق أصحابه عنه ثم عادوا إليه فجرح أقربهم منه جراحات أثخنته وعاد إلى الوزير فتركه بآخر رمق‏.‏

وكان كريمًا واسع الصدر حسن الخلق كثير العمارة ونفر الناس منه لأنه دخل في الوزارة وقد تغيرت القوانين ولم يبق دخل ولا مال ففعل للضرورة ما خافه الناس بسببه‏.‏

وكان حسن المعاملة مع التجار فاستغنى به خلق كثير فكانوا يسألونه ليعاملهم فلما قتل ضاع منهم مال كثير‏.‏

حكي أن بعض التجار باعه متاعًا بألف دينار فقال له‏:‏ خذ بها حنطة من الراذان خمسين كرًا كل كر بعشرين دينارًا فامتنع التاجر من أخذها وقال‏:‏ لا أريد غير الدنانير‏.‏

فلما كان من الغد دخل إليه التاجر فقال له‏:‏ يهنئك يا فلان‏!‏ فقال‏:‏ وما هو قال‏:‏ خبر حنطتك فقال‏:‏ ما لي حنطة ولا أريدها قال‏:‏ بلى وقد بيعت كل كر بخمسين دينارًا فقال‏:‏ أنا لم أتقبل بها‏!‏ فقال الوزير‏:‏ ما كنت لأفسخ عقدًا عقدته‏.‏

قال‏:‏ فخرجت وأخذت ثمن الحنطة ألفين وخمسمائة دينار وأضفت إليها مثلها وعاملته فقتل فضاع الجميع‏.‏

وكان قد نفق عليه عمل الكيمياء واختص به إنسان كيميائي فكان يعده الشهر بعد الشهر والحول بعد الحول وقال له بعض أصحابه وقد أحاله عليه بكر حنطة فاستزاده‏:‏ لو كان صادقًا في عمله لما كان يستزيد من القدر القليل وقتل ولم يصح له منه شيء‏.‏

ولما قتل الأعز أبو المحاسن وزر بعده الوزير الخطير أبو منصور الميبذي الذي كان وزير السلطان محمد‏.‏

وكان سبب فراقه لوزارة محمد أنه كان معه بأصبهان وبركيارق يحاصره وقد سلم إليه محمد بابًا من أبوابها ليحفظها فقال له الأمير ينال بن أنوشتكين‏:‏ كنت قد كلفتنا ونحن بالري لنقصد همذان وقلت‏:‏ أنا أقيم بالعسكر من مالي وأحصل لهم ما يقوم بهم ولا بد من ذلك‏.‏

فقال الخطير‏:‏ أنا أفعل ذلك‏.‏

فلما كان الليل فارق البلد وخرج من الباب الذي كان مسلمًا إليه وقصد بلده ميبذ وأقام بقلعتها متحصنًا فأرسل إليه السلطان بركيارق وحصره فنزل منها مستأمنًا فحمل على بغل بإكاف إلى العسكر فوصله في طريقه قتل الوزير الأعز وكتاب السلطان له بالأمان وطيب قلبه فلما وصل إلى العسكر خلع عليه واستوزره‏.‏

في سنة ثلاث وتسعين بيع رحل بني جهير ودورهم بباب العامة ووصل ثمن ذلك إلى مؤيد الملك ثم قتل في سنة أربع وتسعين مؤيد الملك وبيع ماله وبركة وأخذ الجميع وحمل إلى الوزير الأعز وقتل الوزير الأعز هذه السنة وبيع رحله واقتسمت أمواله وأخذ السلطان ومن ولي بعده أكثرها وتفرقت أيدي سبا وهذا عاقبة خدمة الملوك‏.‏

  ذكر الفتنة بين إيلغازي وعامة بغداد

في هذه السنة في رجب كانت فتنة شديدة بين عسكر الأمير إيلغازي ابن أرتق شحنة بغداد وبين عامتها‏.‏

وسببها أن إيلغازي كان بطريق خراسان فعاد إلى بغداد‏.‏

فلما وصل أتى جماعة من أصحابه إلى دجلة فنادوا ملاحًا ليعبر بهم فتأخر فرماه أحدهم بنشابة فوقعت في مشعره فمات فأخذ العامة القاتل وقصدوا باب النوبي فلقيهم ولد إيلغازي مع جماعة فاستنقذوه ورجمهم العامة بسوق الثلاثاء فمضى إلى أبيه مستغيثًا فأخذ حاجب الباب من له في هذه الحادثة عمل فلم يقنع إيلغازي ذلك فعبر بأصحابه إلى محلة الملاحين المعروفة بمربعة القطانين ويتبعهم خلق كثير فنهبوا ما وجدوا وقدروا عليه فعطف عليهم العيارون فقتلوا أكثرهم‏.‏

ونزل من سلم في السفن ليعبروا دجلة فلما توسطوها ألقى الملاحون أنفسهم في الماء وتركوهم فغرقوا فكان الغريق أكثر من القتيل وجمع إيلغازي التركمان وأراد نهب الجانب الغربي فأرسل الخليفة قاضي القضاة والكيا الهراس المدرس بالنظامية فمنعاه من ذلك فامتنع‏.‏